[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]

كيف نخلص أنفسنا من الحقد؟

"ما أكثر الخير الذي يعود علينا لو أننا بذلنا الجهد
الكبير الذي نبذله في التفكير في الشقاء الذي يصيبنا ووجهناه وجهة أخرى،
إلى العمل النافع المثمر!" ت. س. إليوت


كتب أونوري دي بلزاك Balzac كاتب فرنسا الشهير (1799-1850) يصور أحاسيسه
ومشاعره في إحدى مراحل حياته المبكرة، تلك التي لازمته وانعكست في بعض قصصه
ومؤلفاته عندما أمسك بالقلم ليكتب ويصبح واحداً من مشاهير الأدباء في
العالم:

"كنت في الحادية عشرة، وكانت أختي التي تصغرني بستة عشر شهراً هي صديقتي
الوحيدة. كنا نلعب معاً ونأكل معاً وننام معاً، فلم يكن لي أصدقاء!"

"وكثيراً ما كنت أتساءل: ولكن لماذا لا يكون لي أصدقاء؟ وما هو سر عزوفهم
عن دعوتي لمشاركتهم اللعب؟ أليس غريباً أن يلجأوا إليّ عندما يشعرون بعجزهم
عن فهم دروس الجبر والحساب، ثم ينسونني عندما يخرجون للهو واللعب؟!"

ذكريات الطفولة

كانت ليلة من ليالي الشتاء البارد بمدينة تور Tours بفرنسا، عندما جلس
الصبي الصغير بلزاك وراء زجاج نافذته يرقب الثلوج المتساقطة وأبناء الحي
وهم يلعبون فوق التل القريب، فيتراشقون بالثلج ثم يجمعونه ليصنعوا منه
التماثيل. وكانوا يمرحون ويغنـّون.. أما هو فقد كان يبكي لأن أحداً من
هؤلاء الأصدقاء لم يهتم بدعوته لمشاركتهم في لهوهم!

وفجأة سمع الصبي الصغير صوت والده. لقد كان يقف على مقربة منه ويرقب
الانفعالات التي ظهرت على وجهه، إلى أن سمعه ينتحب، فربت على كتفه في رفق
وسأله: "لماذا تحزن يا بني؟"

فأجاب الصبي: "لأنهم لا يريدونني.. ولا يحبونني، ولكنني سأنتقم منهم.. لن يجدوا مني مساعدة بعد اليوم في شرح ما غمض عليهم من دروس!"

وابتعد الصبي عن نافذته، وذهب يبحث عن أخته التي كانت تلهو بعرائسها الصغيرة، فجلس معها يساعدها على إعداد العرائس للنوم!

تصرف صبياني.. ولكن من منا نحن الكبار لم يفكر مثلما فكر بلزاك، ويتصرف
مثلما تصرّف، ويفعل ما فعله هذا الصبي الصغير الذي شعر بالحقد على أصدقائه
لأنهم لم يشركوه في لعبهم ولهوهم؟

الحقد عند بلزاك
إن بلزاك نفسه لم يستطع أن يتخلص من هذه الصور وغيرها من صور أخرى كان
يعاني منها في طفولته، إلا بعد أن أمضى سنوات طويلة من البحث في طبيعة
النفس البشرية، ومن الغوص في أعماق الإنسان ودراسة أخلاقه ومزاجه.

ولم يكن بلزاك حاقداً على أصدقاء طفولته فحسب، بل لقد حقد على أمه أيضاً،
تلك المرأة التي حجبت عن طفليها الحب والعطف والرعاية التي يبحث عنها كل
طفل، لأنها هي بدورها كانت حاقدة على نفسها وعلى والديها وعلى نصيبها من
الحياة التي جمعتها برجل يكبرها بأكثر من ثلاثين عاماً، فأصبح زوجاً
ووالداً لطفليها.

قال بلزاك بعد هذا في كتابه "سيكولوجية الزواج":
"إن الحقد عدْوى.. فإذا أصاب هذا المرض أحد أفراد الأسرة.. انتقلت عدواه إلى الأسرة كلها!"

عالم الأحقاد
ونحن نعيش في عالم مليء بالأحقاد.. فنحن نحقد إذا تخلى عنا الحظ، أو تخلف
بنا قطار الحياة.. ونحقد إذا فاتتنا ترقية أو إذا كانت الترقية من نصيب
غيرنا، سواء كان يستحقها أو لا يستحقها.. ثم نحقد إذا شعرنا بأن أزواجنا أو
أولادنا لا يقدّرون ما نبذله نحوهم من جهد ومن تضحيات.. ونحقد إذا أساء
إلينا صديق، أو اغتابنا في غيابنا، ونحقد بعد هذا كله لأي سبب ولأتفه سبب.
ونذهب للنوم بعد أن ينتهي النهار، وعندها فقد نشعر بأثر هذا الحقد وما تركه
في نفوسنا وأذهاننا. فقد هرب النوم من أعيننا، وعبثاً نحاول أن نطرد من
رؤوسنا تلك الأفكار المعتمة التي استبدّت بها وسيطرت عليها.

لا نستطيع أن ننسى
كتبت زوجة شابة تشكو، قالت: "إنني مضطرة إلى العيش مع شقيقي وزوجته، فقد
توفي والدانا، ولم يعد لي من عائل يرعاني سوى شقيقي الوحيد.. لكن زوجته لا
تريدني في بيتها.. إنها تقسو في معاملتها معي، وتغلظ لي القول.. إنني لا
أستطيع أن أنسى ذلك اليوم الذي قررتْ فيه زوجة أخي أن تصطحب زوجها للقيام
برحلة خارج المدينة عندما علمت أن اليوم هو عيد ميلادي. وذهب شقيقي وزوجته
دون أن يتمنيا لي عيداً سعيداً!"

لقد شاء سوء حظ هذه الفتاة أن يموت والداها قبل أن تتزوج، وهكذا اضطرت إلى
الاعتماد على شقيقها. ولو كانت تعمل لتغير الحال، فقد كان من الممكن أن
تعتمد على نفسها وتستقل بحياتها.. ومن أجل ذلك تحقد هذه الفتاة على شقيقها
وعلى زوجته، ويضاعف من حقدها أنها لا تستطيع أن تنسى.

الحقد وحوادث الطلاق

يقول علماء النفس أن حمْلنا للضغينة بطريقة شعورية أو لاشعورية، وتذكرنا
بصورة دائمة لما سبق أن تعرضنا له من إذلال أو مهانة، وإحساسنا المستمر
بالظلم الواقع علينا.. كل هذه العوامل تغذي الشعور بالحقد في نفوسنا،
وتدفعنا دفعاً إلى كراهية كل شيء يمت إلى الحياة من حولنا بصلة..

لقد أحصوا حوادث الطلاق في عام واحد، فوجدوا أن أكثر من نصفها يرجع أساساً
إلى نشوب خلاف بين زوجين، كان م الممكن ومن السهل إزالة أسبابه ودوافعه،
لولا أن الزوجة لا تريد أن تنسى، أو أن الزوج لا يستطيع أن يطرد حوادث هذا
الخلاف من رأسه.

لماذا إذاً نضيّع حياتنا في التفكير في أحداث ومشاكل ومسائل كان يمكن أن
تطوى، كما تطوى صفحات الكتاب الذي فرغنا من قراءته، وننساها أو نتناساها مع
الزمن؟

يقول الفيلسوف أروين أيدمان Erwin Edman "إننا نحترق حقدا.. ولو أننا
كرّسنا تلك الطاقة الضخمة التي نبذلها في البكاء على جراح الماضي، في تحسين
الظروف والأحوال التي تثير أحزاننا من حولنا، لاستطعنا أن نغيّر من أنفسنا
ونغير من مسلك وتصرفات كل هؤلاء الذين تسببوا في إثارة أحقادنا".

حياة جديدة
روى أن أحد قضاة الإنكليز قصة رجل قضى في السجن ستة عشر عاماً لإدانته في
جريمة قتل لم يرتكبها.. فقد كان القاتل هو عم السجين، وقد رفض أن يعترف
بجريمته، وكانت النتيجة أن تحمّل ابن أخيه العقاب الذي استحقه العم.. وخرج
البريء المدان من السجن، ولكن لا لينتقم، وإنما ليبدأ حياة جديدة في
الأربعين من عمره.. فقد دخل مدرسة ليتعلم فيها الوعظ والإرشاد، لكي يعود
بعد هذا بما تعلمه إلى زملائه وراء قضبان السجن يحدثهم ويرشدهم ويوجههم إلى
ما فيه خيرهم وخير الإنسانية التي يمثلها هذا الرجل الذي ظلمه المجتمع.

والأطباء ينصحوننا بأن ننسى ونعفو.. فهم يؤكدون أن 80% من حالات الصداع
وسوء الهضم وفقر الدم وقرحة المعدة وارتفاع ضغط الدم سببها الأساسي تفكيرنا
المستمر في أحزاننا وحقدنا على الناس وسخطنا على الحياة وعلى كل من
يعيشها! حتى مرضى القلب، ليسوا هم وحدهم الذين يعملون أكثر من طاقتهم، لكن
أيضاً هؤلاء الذين يشعرون بالسخط على عملهم المرهق الكثير.

أسباب الحوادث

حتى حوادث المرور، لقد ثبت من الإحصاءات التي أجريت كجزء من تلك المحاولات
الدائبة للتقليل منها والحد من خطرها، إن 40% من هذه الحوادث يقع نتيجة
للحالة النفسية السيئة التي يعاني منها سائق السيارة نفسه أو المشاة الذين
تشغلهم مشاكلهم عن رؤية الخطر المحدق بهم وهم يعبرون الشارع.

والمرأة كذلك، تلك التي تعيش بين جدران بيتها، إنها معرّضة للحوادث
والأخطار التي قد تنجم عن سوء استعمال موقد الغاز أو التيار الكهربائي، إذا
كانت من هذا النوع الناقم دائماً الحاقد على الحياة وعلى نصيبها منها!

وكذا الإنتاج في المصانع والشركات، كثيراً ما يتأثر نتيجة للسخط الذي يشعر به العاملون تجاه رئيسهم أو المسؤول عنهم.

البحث عن الأسباب

ماذا نفعل لكي نخلـّص أنفسنا من هذا الشعور؟ إن أول خطوة يتحتم علينا أن
نخطوها هي أن نبحث عن مصدر هذا الشعور بالمرارة أو الحقد الذي يملأ نفوسنا،
ثم نبذل كل ما في وسعنا بعد ذلك لإزالة مسبباته ودوافعه.. وسوف نكتشف من
خلال محاولتنا هذه أن السبب كامن في نفوسنا نحن.. ولكنها الطبيعة البشرية
هي التي تجعلنا دائماً نتغاضى عن أخطائنا ومساوئنا، ونحاول أن نلقي دائماً
اللوم على الآخرين.


لا بد أن ننسى

أما الخطوة الثانية التي يجب أن نخطوها في سبيل التخلص من شعورنا بالمرارة أو الحقد، فهي أن نحاول أن ننسى..

روى أحد الكتاب قصة زوجين فقدا ابنهما الوحيد في ميدان القتال. وقال الكاتب
يكمل روايته: "لقد كان والداه يحبانه حباً يفوق كل تصور، حتى أنهما رفضا
أن يتركا للحزن والمرارة على فقد ابنهما الوحيد، أية فرصة لإفساد تلك
الذكرى الجميلة العاطرة التي يحملانها له في قلبيهما."

ترى ماذا فعل هذان الأبوان؟

قال الكاتب: "لقد جمعا كل ما لديهما من مال وافتتحا به مدرسة أطلقا عليها
إسم ابنهما، لتعليم أبناء الشهداء الذين ماتوا معه في الحرب، بالمجان!"

لكن التخلص من الشعور بالحقد والمرارة لا يكفي وحده، فالعقلاء هم الذين يملأون نفوسهم بعد ذلك بآمال جديدة للمستقبل.

الحياة والجمال

وكما أن الحب يولـّد الحب، كذلك الحقد يولـّد الحقد ويغذيه. ومهما كانت
أسباب شعورنا بالحقد، فهي لا تستحق منا كل هذا الإهتمام الذي يستنفد جانباً
كبيراً من نشاطنا وحيويتنا وتفكيرنا..

كثير من الصور الجميلة من حولنا تحجبها عنا الجراح المفتوحة التي ما زالت تنزف دماً.
الشمس تشرق ولكننا لا نراها ولا نشعر بدفئها..
والطيور تغرد فلا نسمعها..
والزهور تتفتح ونحن غافلون عنها..

الحياة مليئة بالجمال.. فلماذا لا نستمتع بها؟
لماذا لا ننسى أحقادنا
وندفن أحزاننا
لنرى هذا الجمال وننعم به
قبل أن يتوقف بنا قطار الحياة
في نهاية رحلته؟!